
قطب العربي يكتب:
هل الثورات هي الطريق الوحيد للتغيير؟


لم تكن دعوات التظاهر التي دعا إليها ناشطون مصريون يقيمون في الخارج يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني مجرد مظاهرة تنتهي بانتهاء يومها المحدد، ولكنها كانت -وفق دعاتها- شرارة ثورة جديدة، أو استكمالا لثورة يناير المغدورة، لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه تلك الثورة، أو استرداد ما حققته من مكاسب. ومع انتهاء اليوم دون نزول متظاهرين ظهرت بعض الأسئلة المتداخلة، هل الشعب المصري تنكّر لثورته؟ هل أصبح يخشى الثورة مجدّدا أو التداعيات المصاحبة خاصة “الفلتان الأمني” التي عاش بعضها من قبل؟ هل يرى أن أوضاعه الحالية أفضل من المجهول الذي تحذر وسائل إعلام النظام منه؟ هل يفضل الإصلاح الجزئي على الثورة الشاملة؟ وفي سؤال جامع: هل الثورات هي الطريق الوحيد للتغيير؟
تفاوت القبول الشعبي للثورات
لا شك أن الثورات تحقق من التغييرات خلال فترة قصيرة ما يحتاج عقودا أو حتى قرونا، لكن الثورات الحقيقية القادرة على تحقيق ذلك تحتاج إلى اختمار كامل قبل انفجارها، بمعنى أن تكون رغبة غالبية الشعب وليس قطاعا منه. وبحسب اتساع دائرة الغاضبين والراغبين في التغيير، تكون القدرة على حماية الثورة وإحداث التغيير الشامل المطلوب، أما حين يكون أنصار الثورة نصف المجتمع أو أقل، فإنها بالتأكيد لن تقوى على مواجهة الأعاصير، وهو ما حدث مع ثوراتنا العربية، كل حسب دائرة مناصريه.
استطاعت الثورة التونسية البقاء لمدة عشر سنوات، وهي الأطول بين الربيع العربي نظرا لوجود تيار أوسع داعم للثورة، وبقت الثورة بين كر وفر في ليبيا حتى الآن بحكم امتلاك جميع الأطراف القوة العسكرية وليس القوة الشعبية، في حين لم تستطع الثورة المصرية (التي أفخر بالانتماء إليها) البقاء أكثر من عامين ونصف العام لأن أنصارها كانوا بالكاد نصف المجتمع، حسب ما أظهرت نتيجة أول انتخابات رئاسية نزيهة بين ممثل الثورة (الدكتور محمد مرسي) وممثل النظام الذي قامت ضده الثورة (الفريق أحمد شفيق). ودخلت الثورتان السورية واليمنية مرحلة الاحتراب غير المتكافئ حتى هذه اللحظة، وفي الموجة الثانية حققت الموجة الثورة الجزائرية مكاسب جديدة ولكنها أقل من الطموحات، في حين لا تزال الثورة السودانية تتخبط بعد 4 سنوات من إسقاطها للرئيس عمر البشير، بينما بقى مجلسه العسكري في سدة الحكم حتى الآن.
الثورات ليست عملا مرغوبا لذاته، ولكنها وسيلة اضطرارية حين تغلَق كل منافذ التغيير والإصلاح السلمي، الذي يستهدف تطوير الأوطان، ونقلها إلى مصاف الدول الديمقراطية الحديثة، وهو ما يسهم في تعزيز اقتصاداتها واجتذاب استثمارات جديدة، واكتساب مكانة دولية مرموقة.
تجربتا تركيا وإندونيسيا
لقد حققت العديد من الدول تغييرات جذرية، كتلك التي تنتجها الثورات الكبرى عبر مسيرة الإصلاح السياسي، تركيا مثلا حققت تغييرات كبرى نقلتها من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، ومن دولة فقيرة إلى نادي العشرين الكبار عالميا، وذلك من دون ثورة دموية، بل الصحيح أنها واجهت انقلابات دموية فرضت حكمها العسكري عقودا طويلة، قبل أن تتمكن الحركة السياسية المدنية التركية من تحقيق التغيير المرغوب.
إندونيسيا مثال آخر، فقد حكمها الجنرال سوهارتو من عام 1967 حتى 1998، وبدأت حركة احتجاج متدرجة ضده منذ مطلع الثمانينيات بعريضة الخمسين التي وقعها مدنيون وعسكريون سابقون، ربما كانت قضية انفصال تيمور الشرقية حافزا للقوى الغربية لرفع دعمها لحكم الجنرال سوهارتو، لكن ذلك كان مشهدا واحدا من الصورة، أما بقية المشاهد فقد رسمها نضال الشعب الإندونيسي الذي أجبر النظام على تنفيذ إصلاحات تدريجية، مع ظهور قيادات سياسية ملهمة مثل ميجاواتي سوكارنو.
لم يهنأ سوهارتو بفترة حكمه الجديدة التي منحه إياها برلمانه المزور عام 1998، حيث بقي بضعة أشهر فقط بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، مع فرض المزيد من الأعباء على المواطنين عقب اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ورفع الدعم عن السلع الرئيسية، وتزايد الديون الخارجية، وهروب المستثمرين الأجانب، وانهيار العملة المحلية (الروبية)، واستنزاف الاحتياطي النقدي، وتوقف بعض المشروعات الكبرى، وإفلاس العديد من الشركات، واندلعت موجة مظاهرات قوية انتهت باستقالته في 21 مايو/أيار 1998، والدعوة إلى انتخابات جديدة فازت بها ميجاواتي سوكارنو.
قد يرى البعض ما حدث في إندونيسيا ثورة، لكن أهل البلد لم يصفوه بذلك، فلم يتم تعطيل الدستور الصادر عام 1945 كما تفعل الثورات، ولم تُفرَض الأحكام العرفية، ولم تحدث حالة انفلات أمني، بل انتقلت السلطة بشكل سلمي من الرئيس المهزوم إلى الرئيسة الفائزة.
حوار وطني حقيقي
في عالمنا العربي، شهدت بعض الدول إصلاحات سياسية سمحت للمعارضة بتشكيل حكومة كما حدث في المغرب، أو بالمشاركة فيها كما حدث في الأردن واليمن والكويت والجزائر والسودان، لكن هذا المسار لم يستمر، بل كان لمواجهة ظروف لحظية، كما أن حالة النضج الشعبي لم تكن كافية للحفاظ على تلك المكاسب وتطويرها، وحتى لا يقول أحد إن مصر نفسها شهدت إصلاحات جزئية قبل ثورة يناير، فالحقيقة أنها كانت محدودة جدّا، لا تلبي الحد الأدنى المقبول، فلا هي سمحت بانتخابات رئاسية نزيهة عام 2005، ولا سمحت بمشاركة حقيقية للمعارضة في الحكومة أو حتى في الحكم المحلي.
بخلاف أهل الحكم وأنصارهم، هناك فئات أخرى تقاوم الإصلاح أو تخشاه، إما لرغبتها في استمرار مكاسبها وأوضاعها الاجتماعية، أو لخوفها منه نتيجة الدعاية المضادة، والعلاج لذلك هو حوار وطني حقيقي يمكن أن يستضيفه الأزهر الشريف أو بيت العائلة، أو لجنة ممثلة للنقابات المهنية والعمالية، يطرح فيه الجميع مخاوفهم ومطالبهم، ويتم خلاله التوصل إلى رؤية لمصر المستقبل، وفق جدول زمني للتحول الديمقراطي يحقق الممكن من الطموحات لأهلها ولقواها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، من دون تهميش أو إقصاء لأحد.